فصل: تفسير الآيات (25- 53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل؛ وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم؛ وأقام شرائعه على العدل في الحكم. العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم، وتوزن به الحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات.
وينتقل من هذه الحقيقة. حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل. إلى ذكر الساعة. والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل. والساعة غيب. فمن ذا يدري إن كانت على وشك: {وما يدريك لعل الساعة قريب}..
والناس عنها غافلون، وهي منهم قريب، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل، الذي لا يهمل فيه شئ ولا يضيع..
ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق}..
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها؛ فلا عجب يستعجلون بها مستهترين. لأنهم محجوبون لا يدركون. وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها، ومن ثم هم يشفقون ويخافون، وينتظرونها بوجل وخشية، وهم يعرفون ما هي حين تكون.
وإنها لحق. وإنهم ليعلمون أنها الحق. وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون.
{ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد}..
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد..
وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها، إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده:
{الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز}..
وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك.
ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية:
{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب}..
فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء. يرزق الصالح والطالح، والمؤمن والكافر. فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئاً؛ وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية؛ ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم ولماتوا جوعاً وعرياً وعطشاً، وعجزاً عن أسباب الحياة الأولى، ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم. ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة واستعدادات الأفراد الخاصة. وجعله فتنة وابتلاء. يجزي عليهما الناس يوم الجزاء.
ثم جعل الآخرة حرثا والدنيا حرثا يختار المرء منهما ما يشاء. فمن كان يريد حرث الآخرة عمل فيه، وزاد له الله في حرثه، وأعانه عليه بنيته، وبارك له فيه بعمله. وكان له مع حرث الآخرة رزقه المكتوب له في هذه الأرض لا يحرم منه شيئا. بل إن هذا الرزق الذي يعطاه في الأرض قد يكون هو بذاته حرث الآخرة بالقياس إليه، حين يرجو وجه الله في تثميره وتصريفه والاستمتاع به والإنفاق منه.. ومن كان يريد حرث الدنيا أعطاه الله من عرض الدنيا رزقه المكتوب له لا يحرم منه شيئا. ولكن لم يكن له في الآخرة نصيب. فهو لم يعمل في حرث الآخرة شيئاً ينتظر عليه ذلك النصيب!
ونظرة إلى طلاب حرث الدنيا وطلاب حرث الآخرة، تكشف عن الحماقة في إرادة حرث الدنيا! فرزق الدنيا يتلطف الله فيمنحه هؤلاء وهؤلاء. فلكل منهما نصيبه من حرث الدنيا وفق المقدور له في علم الله. ثم يبقى حرث الآخرة خالصا لمن أراده وعمل فيه.
ومن طلاب حرث الدنيا نجد الأغنياء والفقراء؛ بحسب أسباب الرزق المتعلقة بالأوضاع العامة والاستعدادات الخاصة. وكذلك نجد الحال عند طلاب حرث الآخرة سواء بسواء. ففي هذه الأرض لا اختلاف بين الفريقين في قضية الرزق. إنما يظهر الاختلاف والامتياز هناك! فمن هو الأحمق الذي يترك حرث الآخرة. وتركه لا يغير من أمره شيئا في هذه الحياة؟!
والأمر في النهاية مرتبط بالحق والميزان الذي نزل به الكتاب من عند الله. فالحق والعدل ظاهران في تقدير الرزق لجميع الأحياء. وفي زيادة حرث الآخرة لمن يشاء. وفي حرمان الذين يريدون حرث الدنيا من حرث الآخرة يوم الجزاء..
ومن ثم يبدأ جولة أخرى حول الحقيقة الأولى:
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم.
ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور}..
في فقرة سابقة قرر أن ما شرعه الله للأمة المسلمة هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، وهو ما أوحى به إلى محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه الفقرة يتساءل في استنكار عما هم فيه وما هم عليه، من ذا شرعه لهم ما دام الله لم يشرعه؟ وهو مخالف لما شرعه منذ أن كان هناك رسالات وتشريعات؟
{أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}..
وليس لأحد من خلق الله أن يشرع غير ما شرعه الله وأذن به كائنا من كان؛ فالله وحده هو الذي يشرع لعباده. بما أنه سبحانه هو مبدع هذا الكون كله، ومدبره بالنواميس الكلية الكبرى التي اختارها له. والحياة البشرية إن هي إلا ترس صغير في عجلة هذا الكون الكبير، فينبغي أن يحكمها تشريع يتمشى مع تلك النواميس؛ ولا يتحقق هذا إلا حين يشرع لها المحيط بتلك النواميس. وكل من عدا الله قاصر عن تلك الإحاطة بلا جدال. فلا يؤتمن على التشريع لحياة البشر مع ذلك القصور.
ومع وضوح هذه الحقيقة إلى حد البداهة؛ فإن الكثيرين يجادلون فيها، أو لا يقتنعون بها، وهم يجرؤون على استمداد التشريع من غير ما شرع الله، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم، ويوائمون بين ظروفهم والتشريع الذي ينشئونه من عند أنفسهم. كأنما هم أعلم من الله وأحكم من الله! أو كأنما لهم شركاء من دون الله يشرعون لهم ما لم يأذن به الله! وليس أخيب من ذلك ولا أجرأ على الله!
لقد شرع الله للبشرية ما يعلم سبحانه، أنه يتناسق مع طبيعتها وفطرتها وطبيعة الكون الذي تعيش فيه وفطرته. ومن ثم يحقق لهذه البشرية أقصى درجات التعاون فيما بينها، والتعاون كذلك مع القوى الكونية الكبرى. شرع في هذا كله أصولاً، وترك للبشر فقط استنباط التشريعات الجزئية المتجددة مع حاجات الحياة المتجددة، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة. فإذا ما اختلف البشر في شئ من هذا ردوه إلى الله؛ ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريع جزئي وكل تطبيق.
بذلك يتوحد مصدر التشريع، ويكون الحكم لله وحده. وهو خير الحاكمين. وما عدا هذا النهج فهو خروج على شريعة الله، وعلى دين الله، وعلى ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم الصلاة والسلام.
{ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم}..
فقد قال الله كلمة الفصل بإمهالهم إلى يوم القول الفصل. ولولاها لقضى الله بينهم، فأخذ المخالفين لما شرعه الله، المتبعين لشرع من عداه. لأخذهم بالجزاء العاجل. ولكنه أمهلهم ليوم الجزاء.
{وإن الظالمين لهم عذاب أليم}..
فهذا هو الذي ينتظرهم جزاء الظلم. وهل أظلم من المخالفة عن شرع الله إلى شرع من عداه؟
ومن ثم يعرض هؤلاء الظالمين في مشهد من مشاهد القيامة. يعرضهم خائفين من العذاب وكانوا من قبل لا يشفقون، بل يستعجلون ويستهترون:
{ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم}..
والتعبير العجيب يجعل إشفاقهم {مما كسبوا} فكأنما هو غول مفزع؛ وهو هو الذي كسبوه وعملوه بأيديهم وكانوا به فرحين! ولكنهم اليوم يشفقون منه ويفزعون {وهو واقع بهم}.. وكأنه هو بذاته انقلب عذابا لا مخلص منه، وهو واقع بهم!
وفي الصفحة الأخرى نجد المؤمنين الذين كانوا يشفقون من هذا اليوم ويخافون. نجدهم في أمن وعافية ورخاء:
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات}..
والتعبير كله رُخاء يرسم ظلال الرخاء: {في روضات الجنات}.. {لهم ما يشاءون عند ربهم} بلا حدود ولا قيود. {ذلك هو الفضل الكبير}.. {ذلك الذي يبشر الله عباده} فهو بشرى حاضرة، مصداقاً للبشرى السالفة. وظل البشرى هنا هو أنسب الظلال.
وعلى مشهد هذا النعيم الرخاء الجميل الظليل يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: إنه لا يطلب منهم أجراً على الهدى الذي ينتهي بهم إلى هذا النعيم، وينأى بهم عن ذلك العذاب الأليم. إنما هي مودته لهم لقرابتهم منه، وحسبه ذلك أجراً:
{قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور}..
والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه لا يطلب منهم أجرا، إنما تدفعه المودة للقربى وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة بكل بطن من بطون قريش ليحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقق الخير لهم إرضاء لتلك المودة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى!
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها. وهناك تفسير مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري:
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت طاووسا يحدث عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأل عن قوله تعالى: {إلا المودة في القربى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد.

.تفسير الآيات (25- 53):

{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
هذا القسم الثاني من السورة يمضي في الحديث عن دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق وعن آثار القدرة فيما يحيط بالناس، وفيما يتعلق مباشرة بحياتهم ومعاشهم، وفي صفة المؤمنين التي تميز جماعتهم.. وذلك بعد الحديث في القسم الأول عن الوحي والرسالة من جوانبها المتعددة.. ثم يعود في نهاية السورة إلى الحديث عن طبيعة الوحي وطريقته. وبين القسمين اتصال ظاهر، فهما طريقان إلى القلب البشري، يصلانه بالوحي والإيمان.
{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير}..
تجيء هذه اللمسة بعد ما سبق من مشهد الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم، ومشهد الذين آمنوا في روضات الجنات. ونفي كل شبهة عن صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغهم به عن الله. وتقرير علم الله بذوات الصدور.
تجيء لترغيب من يريد التوبة والرجوع عما هو فيه من ضلالة، قبل أن يقضى في الأمر القضاء الأخير. ويفتح لهم الباب على مصراعيه: فالله يقبل عنهم التوبة، ويعفو عن السيئات؛ فلا داعي للقنوط واللجاج في المعصية، والخوف مما أسلفوا من ذنوب. والله يعلم ما يفعلون. فهو يعلم التوبة الصادقة ويقبلها. كما يعلم ما أسلفوا من السيئات ويغفرها.